كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكذلك قوله سبحانه: {وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الذين ءامَنُواْ} [هود: 29]: {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 107] مما لي حرف النفي وكان الخبر صفة.
وقد صرح صاحب الكشاف وغيره بإفادة التقديم الحصر في ذلك كله، وأما صورة الإثبات نحو أنا عارف فلا يجري فيها ذلك فلا يفيد عنده تخصيصًا، وإن كان مفيدًا إياه عند من لا يشترط ذلك.
وأجاب صاحب الكشف عما قاله صاحب الإيضاح بعد نقل خلاصته: بأن ما فيه الخبر وصفًا كما يقارب ما فيه الخبر فعلًا في إفادة التقوى على ما سلمه المعترض يقاربه في إفادة الحصر لذلك الدليل بعينه، وأن قولهم: {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لرجمناك} [هود: 91] كفى به دليلًا أن حق الكلام أن يفاد التخصيص لا أصل العز ففهمه من ذلك لا ينافي كونه جوابًا لهذا الكلام بل يؤكده، وقد صرح الزمخشري بإفادة نحو هذا التركيب الاحتمالين في أنها كلمة هو قائلها، وقال العلامة الطيبي: إن قوله تعالى: {لَوْلاَ رَهْطُكَ لرجمناك} [هود: 91] وقوله سبحانه: {وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91] من باب الطرد والعكس عنادًا منهم فلابد من دلالتي المنطوق، والمفهوم في كل من اللفظين انتهى.
ويعلم من جميع ما ذكر ضعف اعتراض صاحب الإيضاح والعجب من العلامة حيث قال: إنه اعتراض قوي؛ وأشار السكاكي بتقدير المضاف إلى دفع الإشكال بأن كلامهم إنما وقع في شعيب عليه السلام وفي رهطه وأنهم هم الأعزة دونه من غير دلالة على أنهم أعز من الله تعالى.
وأجيب أيضًا بأن تهاونهم بنبي الله تعالى تهاون به سبحانه فحين عز عليهم رهطه دونه كان رهطه أعز عليهم من الله تعالى أو بأن المعنى أرهطى أعز عليكم من الله تعالى حتى كان امتناعكم عن رجمي بسبب انتسابي إليهم وأنهم رهطى لا بسبب انتسابي إلى الله تعالى وأني رسوله.
ثم ما ذكره السيد قدس سره من جعل التنوين في عزيز للتعظيم وحينئذٍ يدل الكلام على ثبوت أصل العزة له عليه السلام فيلائمه أرهطى أعز؟ إلخ صحيح في نفسه إلا أن ذلك بعيد جدًا من حال القوم، فإن الظاهر أنهم إنما قصدوا نفي العزة عنه عليه السلام مطلقًا وإثباتها لرهطه لا نفي العزة العظيمة عنه وإثباتها لهم ليدل الكلام على اشتراكهما في أصل العزة وزيادتها فيهم، وذلك لأن العزة وإن لم تكن عظيمة تمنع من القتل بالحجارة الذي هو من أشر أنواع القتل، ولا أظن إنكار ذلك إلا مكابرة، وكأنه لهذا لم يعتبر مولانا أبو السعود عليه الرحمة جعل التنوين للتعظيم لتتأتى المشاركة فيظهر وجه إنكار الأعزية فاحتاج للكشف عن ذلك مع عدم المشاركة، فقال: وإنما أنكر عليه السلام عليهم أعزية رهطه منه تعالى مع أن ما أثبتوه إنما هو مطلق عزة رهطه لا أعزيتهم منه عز وجل مع الاشتراك في أصل العزة لتثنية التقريع وتكرير التوبيخ حيث أنكر عليهم أولا ترجيح جنبة الرهط على جنبة الله تعالى.
وثانيًا نفي العزة بالمرة، والمعنى أرهطي أعز عليكم من الله فإنه مما لا يكاد يصح، والحال أنكم لم تجعلوا له تعالى حظًا من العزة أصلًا: {واتخذتموه} بسبب عدم اعتدادكم بمن لا يرد ولا يصدر إلا بأمره: {وَرَاءكُمْ ظِهْرِيًّا} شيئًا منبوذًا وراء الظهر منسيًا انتهى.
وأنا أقول: قد ذكر الرضى أن المجرور بمن التفضيلية لا يخلو من مشاركة المفضل في المعنى إما تحقيقًا كما في زيد أحسن من عمرو أو تقديرًا كقول علي كرم الله تعالى وجهه: لأن أصوم يومًا من شعبان أحب إلي من أن أفطر يومًا من رمضان وذلك لأن إفطار يوم الشك الذي يمكن أن يكون من رمضان محبوب عند المخالف فقدره علي كرم الله تعالى وجهه محبوبًا إلى نفسه أيضًا، ثم فضل صوم شعبان عليه فكأنه قال: هب أنه محبوب عندي أيضًا أليس صوم يوم من شعبان أحب منه انتهى، وما في الآية يمكن تخريجه على طرز الأخير فيكون إنكاره عليه السلام عليهم أعزية رهطه منه تعالى على تقدير أن يكون عز وجل عزيزًا عندهم أيضًا، ويعلم من ذلك إنكار ما هم عليه بطريق الأولى، وكأن هذا هو الداعي لاختيار هذا الأسلوب من الإنكار، ووقوعه في الجواب لا يأبى ذلك، وإن قيل بجواز خلو المجرور بمن من مشاركة المفضل وإرادة مجرد المبالغة من أفعل المقرون بها بناءًا على مجئ ذلك بقلة كما قال الجلال السيوطي في همع الهوامع: نحو: العسل أحلى من الخل، والصيف أحر من الشتاء، واعتمد هنا على قرينة السباق والسياق فالأمر واضح، واستحسن كون قوله تعالى: {واتخذتموه} إلخ اعتراضًا وفائدته تأكيدتها ونهم بالله تعالى ببيان أنهم قوم عادتهم أن لا يعبأوا بالله تعالى ويجعلوه كالشيء المنبوذ، وجوز بعض كونه عطفًا على ما قبله على معنى أفضلتم رهطى على الله سبحانه وتهاونتم به تعالى ونسيتموه ولم تخشوا جزاءه عز وجل، وقال غير واحد: إنه يحتمل أن يكون الغرض من قوله عليه السلام: {أَرَهْطِى} إلخ الرد والتكذيب لقومه فإنهم لما ادعوا أنهم لا يكفون عن رجمه عليه السلام لعزته بل لمراعاة جانب رهطه ردّ عليهم ذلك بأنكم ما قدرتم الله تعالى حق قدره ولم تراعوا جنابه القوي فكيف تراعون رهطى الأذلة، وأيًا مّا كان فضمير: {اتخذتموه} عائد إلى الله تعالى وهو الذي ذهب إليه جمهور المفسرين، وروي عن ابن عباس والحسن وغيرهما، والظهري منسوب إلى الظهر، وأصله المرمي وراء الظهر، والكسر من تغييرات النسب كما قالوا في النسبة إلى أمس: أمسي بالكسر، وإلى الدهر دهري بالضم، ثم توسعوا فيه فاستعملوه للمنسي المتروك، وذكروا أنه حتمل أن يكون في الكلام استعارة تصريحة وأن يكون استعارة تمثيلية.
وزعم بعضهم أن الضمير له تعالى، والظهري العون وما يتقوى به، والجملة في موضع الحال، والمعنى أفضلتم الرهط على الله تعالى ولم تراعوا حقه سبحانه.
والحال أنكم تتخذونه سند ظهوركم وعماد آمالكم.
ونقل ابن عطية هذا المعنى عن جماعة، وقيل: الظهري المنسي، والضمير عائد على الشرع الذي جاء به شعيب عليه السلام وإن لم يذكر صريحًا، وروي عن مجاهد أو على أمر الله، ونقل عن الزجاج، وقيل: الظهري بمعنى المعين، والضمر لله تعالى، وفي الكلام مضاف محذوف أي عصيانه والمعنى على ما قرره أبو حيان واتخذتم عصيانه تعالى عونًا وعدة لدفعي، وقيل: لا حذف والضمير للعصيان وهو الذي يقتضيه كلام المبرد، ولا يخفى ما في هذه الأقوال من الخروج عن الظاهر من غير فائدة، ومما ينظم في سلكها تفسير العزيز بالملك زعمًا أنهم كانوا يسمعون الملك عزيزًا على أن من له أدنى ذوق لا يكاد يسلم صحة ذلك فتفطن، ونصب: {وَرَاءكُمْ ظِهْرِيًّا} على أنه مفعول ثان لاتخذتموه والهاء مفعوله الأول، و: {وَرَائِكُمْ} ظرف له أو حال من: {ظِهْرِيًّا}.
{إِنَّ رَبّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} تهديد عظيم لأولئك الكفرة الفجرة أي أنه سبحانه قد أحاط علمًا بأعمالكم السيئة التي من جملتها رعايتكم جانب الرهط دون رعاية جنابه جل جلاله في فيجازيكم على ذلك، وكذا قوله: {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} أي غاية تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم، وهو مصدر مكن يقال: مكن مكانة إذا تمكن أبلغ تمكن، والميم على هذا أصلية، وفي البحر يقال: المكان والمكانة مفعل ومفعلة من الكون والميم حينئذٍ زائدة، وفسر ابن زيد المكانة بالحال يقال: على مكانتك فلان إذا أمرته أن يثبت على حاله كأنك قلت: اثبت على حالك التي أنت عليها لا تنحرف، وهو من استعارة العين للمعنى كما نص عليه غير واحد، وحاصل المعنى هاهنا اثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر والمشاقة لي وسائر ما لا خير فيه.
وقرأ أبو بكر: {مكاناتكم} على الجمع وهو باعتبار جمع المخاطبين كما أن الأفراد باعتبار الجنس، والجار والمجرور كما قال بعضهم: يحتمل أن يكون متعلقًا بما عنده على تضمين الفعل على معنى البناء ونحوه كما تقول: عمل على الجد وعلى القوة ونحوهما، وأن يكون في موضع الحال أي اعملوا قارين وثابتين على مكانتكم.
{إِنّى عامل} على مكانتي حسبما يؤيدني الله تعالى ويوفقني بأنواع التأييد والتوفيق، وكأنه حذف على مكانتي للاختصار ولما فيه من زيادة الوعيد، وقوله سبحانه: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} استئناف وقع جواب سؤال مقدرنا شيء من تهديده عليه السلام إياهم بقوله: {اعملوا} إلخ كأن سائلًا منهم سأل فماذا يكون بعد ذلك؟ فقيل: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} ولذا سقطت الفاء وذكرت في آية الأنعام للتصريح بأن الوعيد ناشئ ومتفرع على إصرارهم على ما هم عليه والتمكن فيه، وما هنا أبلغ في التهويل للإشعار بأن ذلك مما يسئل عنه ويعتنى به، والسؤال المقدر يدل على ما دلت عليه الفاء مع ما في ذلك من تكثير المعنى بتقليل اللفظ، وكأن الداعي إلى الإتيان بالأبلغ هنا دون ما تقدم أن القوم قاتلهم الله تعالى بالغوا في الاستهانة به عليه السلام وبلغوا الغاية في ذلك فناسب أن يبالغ لهم في التهديد ويبلغ فيه الغاية وإن كانوا في عدم الانتفاع كالأنعام، وما فيها نحو ذلك.
وقال بعض أجلة الفضلاء: إن اختيار إحدى الطريقين ثمة والأخرى هنا وإن كان مثله لا يسئل عنه لأنه دوري لأن أول الذكرين يقتضي التصريح فيناسب في الثاني خلافه انتهى، وهو دون ما قلناه، و: {مِنْ} في قوله سبحانه: {مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} قيل: موصولة مفعول العلم وهو بمعنى العرفان، وجملة: {يَأْتِيهِ عَذَابٌ} صلة الموصول، وجملة: {يُخْزِيهِ} صفة: {عَذَابِ} ووصفه بالإخزاء تعريضًا بما أوعدوه عليه السلام من الرجم فإنه مع كونه عذابًا فيه خزي ظاهر، وقوله تعالى: {وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} عطف على: {مَن يَأْتِيهِ} و: {مِنْ} أيضًا موصولة، وجوز أن تكون: {مِنْ} في الموضعين استفهامية، والعلم على بابه وهي معلقة له عن العمل.
واستظهر أبو حيان الموصولية، وليس هذا العطف من عطف القسيم على قسيمه كما في سيعلم الصادق والكاذب إذ ليس القصد إلى ذكر الفريقين، وإنما القصد إلى الرد على القوم في العزم على تعذيبه بقولهم: {لرجمناك} [هود: 91] والتصميم على تكذيبه بقولهم: {أصلواتك تَأْمُرُكَ} [هود: 87] إلخ فكأنه قيل: سيظهر لكم من المعذب أنتم أم نحن ومن الكاذب في دعواه أنا أم أنتم؛ وفيه إدراج حال الفريقين أيضًا.
وفي الإرشاد أن فيه تعريضًا بكذبهم في ادعائهم القوة والقدرة على رجمه عليه السلام، وفي نسبته إلى الضعف والهوان وفي ادعائهم الإبقاء عليه لرعاية جانب الرهط، وقال الزمخشري: إنه كان القياس، ومن هو صادر بدل هذا المعطوف لأنه قد ذكر عملهم على مكانتهم وعمله على مكانته، ثم أتبعه ذكر عاقبة العاملين منه ومنهم فحينئذٍ ينصرف: {مَن يَأْتِيهِ} إلخ إلى الجاحدين ومن هو صادق إلى النبي المبعوث ولكنهم لما كانوا يدعونه عليه السلام كاذبًا قال: ومن هو كاذب بمعنى في زعمكم ودعواكم تجهيلًا لهم يعني أنه عليه السلام جرى في الذكر على ما اعتادوه في تسميته كاذبًا تجهيلًا لهم، والمعنى ستعلمون حالكم وحال الصادق الذي سميتموه كاذبًا لجهلكم، وليس المراد ستعلمون أنه كاذب في زعمكم فلا يرد ما توهم من أن كذبه في زعمهم واقع معلوم لهم الآن فلا معنى لتعليق علمه على المستقبل، وقال ابن المنير: الظاهر أن الكلامين جميعًا لهم فمن يأتيه إلخ متضمن ذكر جزائهم، {وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} متضمن ذكر جرمهم الذي يجازون به وهو الكذب، وهو من عطف الصفة على الصفة والموصوف واحد كما تقول لمن تهدده: ستعلم من يهان ومن يعاقب، وأنت تعني المخاطب في الكلامين فيكون في ذكر كذبهم تعريض لصدقه وهو أبلغ وأوقع من التصريح، ولذلك لم يذكر عاقبة شعيب عليه السلام استغناءًا بذكر عاقبتهم، وقد مر مثل ذلك أول السورة في قوله سبحانه: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [هود: 39] حيث اكتفى بذلك عن أن يقول: ومن هو على خلاف ذلك، ونظيره: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار} [الأنعام: 135] حيث ذكر فيه إحدى العاقبتين لأن المراد بهذه العاقبة عاقبة الخير لأنها متى أطلقت لا يعن إلا ذلك نحو: {والعاقبة للمتقين} [الأعراف: 128] ولأن اللام في: {لَهُ} يدل على أنها ليست عليه، واستغنى عن ذكر مقابلها انتهى، وتعقبه الطيبي بما رده عليه الفاضل الجلبي: {وارتقبوا} أي انتظروا ما أقول لكم من حلول ما أعدكم به وظهور صدقه: {إِنّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ} أي منتظر ذلك، وقيل: المعنى انتظروا العذاب إني منتظر النصرة والرحمة، وروي ذلك عن ابن عباس، و: {رَقِيبٌ} إما بمعنى مرتقب كالرفيع بمعنى المرتفع، أو راقب كالصريم بمعنى الصارم، أو مراقب كعشير بمعنى معاشر، والأنسب على ما قيل بقوله: {ارتقبوا}: الأول وإن كان مجئ فعيل بمعنى اسم الفاعل المزيد غير كثير وفي زيادة: {طائركم مَّعَكُمْ} إظهار منه عليه السلام لكمال الوثوق بأمره.
{وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا} أي عذابنا كما ينبئ عنه قوله سبحانه: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [هود: 93] إلخ أو وقته فإن الارتقاب يؤذن بذلك: {نَجَّيْنَا شُعَيْبًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا} وهو الإيمان الذي وفقناهم له، أو بمرحمة كائنة منالهم وإنما جئ بالفاء في قصتي ثمود ولوط حيث قيل: {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا} [هود: 82] وبالواو هاهنا وفي قصة عاد حيث قيل: {وَلَمَّا جَاء} [هود: 66] إلخ لأنه قد سبق هناك سابقة الوعد بقوله سبحانه: {ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65] وقوله تعالى: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح} [هود: 81] وهو يجري مجرى السبب المقتضى لدخول الفاء في معلوله، وأما هاهنا وفي قصة عاد فلم يسبق مثل ذلك بل ذكر مجئ العذاب على أنه قصة بنفسه وما قبله قصة أخرى لكنهما متعلقان بقوم واحد فهما متشاركان من وجه مفترقان من آخر، وذلك مقام الواو كذا قيل.
وتعقب بأن في الكلام هاهنا ذكر الوعد أيضًا، وهو قوله سبحانه: {لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} إلى قوله عز وجل: {رَقِيبٌ} [هود: 93] غاية الأمر أنه لم يذكر بلفظ الوعد ومثله لا يكفي الفرق، وقيل: إن ذكر الفاء في الموضعين لقرب عذاب قوم صالح ولوط للوعد المذكور فإن بين الأولين والعذاب ثلاثة أيام وبين الآخرين وبينه ما بين قول الملائكة: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح} [هود: 81] والصبح: وهي سويعات يسيرة.
ولا كذلك عذاب قومي شعيب وهود عليهما السلام بل في قصة قوم شعيب عليه السلام ما يشعر بعدم تضييق زمان مجئ العذاب بناءًا على الشائع في استعمال: {سَوْفَ} على أن من أنصف من نفسه لم يشك في الفرق بين الوعد في قصتي صالح ولوط عليهما السلام، والوعد في غيرهما، فإن الإشعار بالمجئ فيهما ظاهر فحسن تفريعه بالفاء ولا كذلك في غيرهما كذا قيل، وفيه ما لا يخفى، ولعل الاقتصار على التفرقة بالقرب وعدمه أقل غائلة مما قيل، وكذا مما يقال: من أن الإتيان بالفاء لتقدم الوعد وتركها وإن كان هناك وعد للإشارة إلى سوء حال أولئك القومين ومزيد فظاعته حتى أن العذاب حل بهم لا لسبب سبق الوعد بل لمجرد ظلمهم وكأن وجه اعتبار ذلك فيهم دون قومي لوط وصالح عليهما السلام أنهم امتازوا عنهم برمي ذينك النبيين بالجنون ومشافهتهما بما لم يشافه به كل من قومي صالح ولوط نبيه فيما قص عنهما في هذه السورة الكريمة فإن في ذلك ما لا يكاد يخفى عليك فتدبر: {وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ} عدل عن الضمير تسجيلًا عليهم بالظلم وإشعارًا بالعلية أي وأخذت أولئك الظالمين بسبب ظلمهم الذي فصل: {الصيحة} قيل: صاح بهم جبريل عليه السلام فهلكوا وكانت صيحة على الحقيقة، وجوز البلخي أن يكون المراد بها نوعًا من العذاب، والعرب تقول: صاح بهم الزمان إذا هلكوا، وقال امرؤ القيس:
فدع عنك نهبًا (صيح) في حجراته ** ولكن حديث ما حديث الرواحل

والمعول عليه الأول، وقد سبق في الأعراف: {الرجفة} [الأعراف: 78، 91] أي الزلزلة بدلها، ولعلها كانت من مباديها فلا منافاة، وقيل: غير ذلك فتذكر: {فَأَصْبَحُواْ في دِيَارِهِمْ جاثمين} أي ميتين من جثم الطائر إذا ألصق بطنه بالأرض، ولذا خص الجثمان بشخص الإنسان قاعدًا، ثم توسعوا فاستعملوا الجثوم بمعنى الإقامة، ثم استعير من هذا الجاثم للميت لأنه لا يبرح مكانه، ولما لم يجعل متعلق العلم في قوله سبحانه: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ} [هود: 93] إلخ نفس مجيء العذاب بل من يجيئه ذلك جعل مجيئه بعد أمرًا مسلم الوقوع غنيًا عن الاخبار به حيث جعل شرطًا، وجعل تنجية شعيب عليه السلام والمؤمنين وإهلاك الكفرة الظالمين جوابًا له ومقصود الإفادة، وإنما قدم التنجية اهتمامًا بشأنها وإيذانًا بسبق الرحمة على الغضب قاله شيخ الإسلام، وأصبح إما ناقصة أو تامة أي صاروا جاثمين، أو دخلوا في الصباح حال كونهم جاثمين.
{كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ} أي لم يقيموا: {فِيهَا} متصرفين في أطرافها متقلبين في أكنافها، والجملة إما خبر بعد خبر، أو حال بعد حال.
{أَلاَ بُعْدًا لّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} العدول عن الإضمار إلى الإظهار للمبالغة في تفظيع حالهم وليكون أنسب بمن شبه هلاكهم بهلاكهم، وإنما شبه هلاكهم بهلاكهم لأن عذاب كل كان بالصيحة غير أنه روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن صيحة ثمود كانت من تحتهم، وصيحة مدين كانت من فوقهم.
وقرأ السلمي وأبو حيوة {بعدت} بضم العين، والجمهور بكسرها على أنه من بعد يبعد بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع بمعنى هلك، ومنه قوله:
يقولون (لا تبعد) وهم يدفونني ** وأين مكان البعد إلا مكانيًا

وأما بعد يبعد بالضم فهو البعد ضد القرب قاله ابن قتيبة، قيل: أرادت العرب بهذا التغيير الفرق بين المعنيين، وقال ابن الأنباري: من العرب من يسوي بين الهلاك وبعد الذي هو ضد القرب، وفي القاموس البعد المعروف والموت، وفعلهما ككرم وفرح بعدًا وبعدًا بفتحتين، وقال المهدوي: إن بعد بالضم يستعمل في الخير والشر.
وبعد بالكسر في الشر خاصة، وكيفما كان الأمر فالمراد ببعدت على تلك القراءة أيضًا هلكت غاية الأمر أنه في ذلك إماحقيقة أو مجاز، ومن هلك فقد بعد ونأى كما قال الشاعر:
من كان بينك في التراب وبينه ** شهران فهو في غاية (البعد)

وفي الآية ما يسمى الاستطراد، قيل: ولم يرد في القرآن من هذا النوع إلا ما في هذا الموضع وقد استعملته العرب في أشعارها، ومن ذلك قول حساب رضي الله عنه تعالى عنه:
إن كنت كاذبة الذي حدثتني ** فنجوت منجى الحرث بن هشام

ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ** ونجا برأس طمرّة ولجام

.اهـ.